إن هذا الحضور الفاعل لشخصية الحمزاوي يتجسّد في أجلى صوره من خلال شخصيات الرواية إذ أن سمات هذه الرحلة الوجودية و محطّاتها المختلفة طبيعة الأزمة التي تحرّك الأحداث , كل ذلك يجعل من الحمزاوي شخصية ذهنية أو هي مجرّد فكرة جسمها الكاتب عبر توزيعها على شخصيات فرعية أخرى تتجسّد كل واحدة منها جانبا من جوانب هذا الشّحاذ .
-مصطفى المنياوي : هي أكثر الشخصيات بروزا في الرواية بعد الحمزاوي إذ واكبت مختلف التحولات في أزمة الشحاذ حتى لكأنها شاهد على عمق هذا التحول و غور هذه الأزمة و احتدادها , و لعل هذا الحضور المتواتر في أبرز المنعطفات الحديثة في الرواية يؤكد أنها رافد من روافد شخصية البطل ووجه من أهم وجوهه , هو وجه الانتهازية , و هو الجانب المريض في شخصية الشحّاذ يعمّق فيه الأزمة و يشدّه إلى عالم الإسفاف و القيم الرخيصة , هو الجانب الذي قاده إلى وحدة المستنقع و ولّد الشعور باختلال التوازن و الإحساس بالتصّدع و الانهيار إذ أن المنياوي يبرز بمواقفه الاجتماعية و السياسية و الثقافية أزمة الشحّاذ و يشير إلى عمق التحول الذي مرّ به من اشتراكي قديم و مناضل ثوريّ إلى بورجوازي عالق في مستنقع من القيم المبتذلة .
-عثمان خليل : هو الضلع الثاني من أضلاع الحمزاوي , و هو الجانب الوضىء الذي حاصره المستنقع الآسن فأطفأ شعلته , و هو الماضي بكل ما يضجّ فيه من روح نضاليّة عارمة واضحة المبدأ منكشفة الهدف ساعية إلى التغيير من أجل جعل المبادئ الثورية واقعا ماثلا من خلال " دولة الملايين" هو الماضي الذي تنكر له الشحّاذ و لذلك كان الحمزاوي قاصرا على مواجهته بعد أن خرج من السجن ممثلا في "عثمان خليل " و انبرى يحاكم رفاق الأمس على ارتدادهم و انهزامهم و تنكرهم للمبدأ . و أزمة الحمزاوي هي في بعض وجوهها ناشئة عن هذا التنكر للماضي بل إن الحالة المرضية التي يعيشها لا تخرج عن كونها نتاجا للارتداد السياسي يؤكد ذلك عثمان خليل إذ يواجه الحمزاوي قائلا :" لعله مرض حقا اذ انك ضيعت جانبك الصحيح الصافي " و يؤكد ذلك الناقد "غالي شكري " بقوله "عثمان شكري كان أعمق جراح في صدر عمر "
-الابنة بثينة : لعلها تمثّل الجانب الروحي النابض في شخصية الحمزاوي , فهي ماضي الشعر الذي تنكر له و قطع جذوره في سياق الارتداد عن كل عناصر الماضي , هي شاعريته التي ماتت في المهد بعد أن حاصرتها المواد الدهنية و أسكتت نبضها طموحات الثراء و الانتهازية و اللّصوصية المقنّعة .
-الزوجة زينب:هي في الرواية رمز لنمط من الحياة ولّد الأزمة و فجّر شرارة الركود و الشعور بعدم الانتماء , هي بامتلاء جسدها في الحاضر تجسيم للثراء و الجاه و الرتابة و ذبول أزهار الحياة و الحب بعد إن كانت شعلة متّقدة ثائرة على القيود متجاوزة لعراقيل القيم والثوابت .
هذه إذا شخصية الحمزاوي : شخصية متضخمة في الرواية وزّعها محفوظ على "جسوم كثيرة". هي عنوان للرواية و هي في فصولها المتعاقبة مجال يسلّط عليه الراوي مجهر الاهتمام فيتابع رحلتها في طريق اكتشاف معنى الحياة . هي الشحّاذ المأزوم الذي حاد عن خط سيره و فقد أسانيد الانتماء و ضيع القيم التي كانت تشده إلى الحياة :ضيع الشعر الذي كان إيقاعه تجسيدا لتوازن وجداني حميم , وضيّع الالتزام بالمبدأ السياسي الذي كان وضوحه يضمن له انكشاف الهدف . هي شخصية تعيش مرضا مركبا مستعرا هو حسب تعريف الناقد"سليمان الشطّي " مرض الإحساس بضياع الماضي و انعدام الدور الإحساس بالسقوط ".
هي أزمة متعددة الجوانب عميقة الأبعاد تتقاطع فيها مثيرات عديدة و تغذّيها أسباب مختلفة فهي أزمة وجودية فقدت فيها الشواغل الاجتماعية أهميتها و انتكس في إطارها العقل و فترت سلطته حتى أصبح الجنون تجربة يشتهى خوضها , و هي أزمة فكرية تنتصب فيها الأسئلة الحادة تعيد النظر في المألوف و الدارج و المتواتر . و هي أزمة نفسية إطارها الإحساس بالغربة . و هي بكل هذه الأبعاد أزمة ذهنية , و هي بكل هذه الأبعاد أزمة ذهنية , أزمة الشحّاذ يستجدي معنى الوجود و يستعطي قيمة لحياته قصد الخروج من لجّة الحيرة و بلوغ درجة التوازن و الوصول إلى الشاطئ اليقين حيث .....الحيرة و تدرك النشوة الخالصة.
البطل الواحد:
في المرحلة الواقعية كان يتقاسم البطولة شخوص عديدون يتناوبون عليها بعدل , فينالون من اهتمام الكاتب حظّا متساويا لا حيف فيه و لا ظلم , أماّ في رواية الشّحاذ فقد شهدنا ميلاد بطل جديد تركّزت كل الأحداث عليه فكان" الشريان النابض و العصب الحي الذي ينتظم في داخل "هيمنته " الكميّة و النوعية و كل الموجودات الأخرى التي بانضمامها إلى بعضها البعض يتحقق الكيان الحيوي للعالم الروائي , و لمزيد من الإيضاح لهذا التعريف الوصفي....فانّه يجوز اعتبارها شبيهة بالصّوت المركزي ذي النغمة الأساسية المتميّزة التي تشدّ إليها مختلف الذبذبات الفرعية الأخرى , وأعني بذلك-الأصوات الفرعية –الشخصيات الثانوية التي لا ترى و لا تحسّ و لا تتصور إلا وهي مقترنة بالشخصية الرئيسية على نحو مباشر و ضمني "
لذلك كان أول من ظهر " و لم يكن بحجرة الانتظار سواه " و كان آخر من اختفى :" و تردّد الشعر في وعيه بوضوح عجيب : إن تكن تريدني حقا فلم هجرتني"
و باختفائه يسدل الستار على أحداث الرواية.
لقد كان عصب الرواية , و كانت كل التفاصيل و الدقائق الروائية بمثابة شعيرات دموية دقيقة تصبّ في شريان الرواية الأكبر و تنبع منه في آن واحد ,فهم الرواية الأول هو أن تقدم لنا عمر الحمزاوي بكل جوانب حياته , بكل أعماقه وبكل آلامه , بكل نشوته و بكل محاولاته الفاشلة و الناجحة في تحقيق كينونته . و كأن الراوي استحال عيني بطله وأذنيه فلا يصف إلا ما يراه عمر الحمزاوي و لا يروي إلا ما التقطته أذنه , أما بقية الأشخاص فلم يكونوا سوى جوانب من شخصية البطل فعثمان خليل هو ماضي البطل الثوري "كنت تظهر لنا بأكثر من وجه, الاشتراكي المتطرف و المحامي الكبير و لكن وجها منك رسخ في ذاكرتي أقوى من أيّ سواه هو عمر الشاعر", و مصطفى المنياوي هو حاضره المتدهور المرتد, و وردة هي عمر المتعة في مرحلة من مسيرته , و زينب هي عمر الثراء و الاكتناز و الرفاه قبل الأزمة , لذلك لا يقدم لنا الكاتب من جوانب حياة الشخصيات الأخرى إلا بالقدر الذي تخدم به هذه الشخصيات البطل الرئيسي و تساهم في تعميق معرفتنا به , بل وجدنا الكاتب يسقط من الرواية كل شخصية تسقط من ذاكرة عمر دون أن يجد القارئ رغبة في معرفة مصيره أو التساؤل عن مآله, فعثمان عرفناه خبرا قبل خروجه من السجن بمدة طويلة لأنه كان "حيّا " في ذاكرة البطل بينما سقطت وردة بمجرد تجاوز البطل لها , كما أن القارئ لا يجد أي رغبة في معرفة ظروف تعرّف مصطفى المنياوي على زوجته , و هل كان زواج حب أو عن مصلحة , و ما هي علاقته بزملائه في العمل , و لا نعرف عن طفولته شيئا و لكننا نعرف عن مصطفى كل ما يهم عمر الحمزاوي : علاقته به كيف نشأت و كيف تطورت إبان الثورة و بعد الارتداد و النكوص عنها .
و نفس المر تقريبا بالنسبة لخليل عثمان و وردة و الطبيب و غيرهم , و لأن همّ نجيب محفوظ الأول كان تركيز الضوء على شخصية عمر الحمزاوي , فنبش في ماضيه البعيد و القريب , و وصفه خلقيا و مهنيا و سلط الضوء على باطنه فكرا و نفسا , فقدّمه لنا بكل جوانب حياته , بكل أعماقه و آلامه متعرضّا لكل الأشياء التي تؤثر فيه أو يؤثر فيها , مهتمّا بكل نزواته و رغباته مقتفيا أثره في كل مغامراته و في كل تنقلاته إلى الطبيب و الملهى و بيت وردة و صحراء الهرم فلم يغب عن مسرح الأحداث لحظة واحدة بينما بقية يحضرون و يغيبون حسب نمو الأحداث و تطوّرها لأنهم مجرد عوامل مساعدة تدور في مجال الشخصية المحوريّة.
و سمة البطل الواحد هذه قد انعكست بجلاء على تركيبة الرواية فنيا إذ إنها اتخذت " طابع التنمية في الاتجاه الطولي إلى الأمام , لا التنمية بالتشابك العرضي بين الأحداث و الشخصيات فما أكثر ما تبدأ فصول رواياته بواو العطف , إنها استمرار مباشر أحيانا للفصول السابقة".