د ) الأزمة :
هناك في القصة أزمات جزئية تنحلّ أثناء القصة، منها القبض علي عثمان خليل ثم إطلاق سراحه؛ منها سفر مارجريت المفاجئ إلى خارج البلاد و عودتها مرة ثانية؛ منها مغامرات عمر بالنساء ليلة ثم تركه إياهنّ.
و الأزمة الأصلية في القصة هي أزمة نفسية تنبع من رغبة ملحة في نفس البطل دفعته إلى البحث عن سرّ الوجود:" قتل الضجر كل شيء و انهارت قوائم الوجود بفعل بضعة أسئلة. قال يوما لأحد عملائه:" تصوّر أن تكسب القضية اليوم و تمتلک الأرض ثم تستولي عليها الحكومة غدا. فأجاب العميل:" ألسنا نعيش حياتنا و نحن نعلم أن الله سيأخذها".37 ومن هنا بدأ تفکيره الممّض في معني الحياة و الموت، و رتابة الحياة العائلية كما أخذ يبحث عن ذاته و حقيقته، و عن الله و عن سرّ الوجود. فافتقد عنده كل الأحياء و الجمادات و الأشياء المحيطة به قيمتها، و خلت من أي معني." و لكن محال أن يكون هذا السؤال و الجواب العابران سبباً حقيقياً في إثارة تلك الأزمة المعروفة للناس جميعا، و هما يشيران إلى حقيقة أبدية معروفة لهم. ولا بدّ إذن أن يكون مجرد يدٍ رفعت الغطاء عن نوازع محبوسة من الحاضر و الماضي. فتدفقت بعدها الأحاسيس المکبوتة و الأفكار الغامضة التي كانت تضطرب في نفسه منذ زمن بعيد ... و الحق أنه كانت في نفسه ثلاثة تيارات مضطربة يمكن أن تخلق هذا الصراع ، أحدها من حاضر حياته، و الآخر من ماضيه البعيد. فهو في حاضره قد يسأم الحياة الزوجية، و راعه ما طرأ علي زوجته الجميلة من تغيير بمرور الزمن، و ما تخضع له علاقته بها و بأصدقائه من رتابة مملة. و هو من ماضيه معذّب الضمير، لأنه من ناحية لم يمض في كفاحه السياسي الذي بدأه في مطلع حياته إلى النهاية، ذلك الكفاح الذي انتهي بزميل له إلى السجن عشرين عاما، علي حين أصبح هو المحامي الثري المرموق؛ و لأنه من ناحية أخري قد هجر الفن و الشعر، و آمن من خلال ممارسته العملية للحياة أنه لا مكان للفن الصادق فيها، و أن الفن قد أصبح مجرد لهو و تسلية في عصر سيطر فيه العلم علي الحياة سيطرة تامة ... و لا شك أن هذه الخيوط الثلاثة إذا تضافرت بصورة فنية ناجحة، يمكن أن تدفع بمثل هذه الشخصية إلى ما أصابها من ملال و قلق. و يمكن أن تنتهي بها إلى الإيمان بعبث الحياة، و بأن وراء كل تلک المتناقضات قانونا أزليا أكثر نظاما و منطقا... و الحق أن تلك الخيوط لم تتضح بصورة متساوية في الرواية، و لم يلتحم بعضها ببعض كما كان ينبغي؛ بل الکاتب يشير إلى الأزمة الحقيقية في عبارات متناثرة هنا و هناک في حوار مع الراقصة أو مع صديقه بطريقة منطقية واعية جامدة، فيها من التخطيط و التدبير في التماس وسائل الشفاء ما يناهض ذلك القلق الوجودي الحاد ليطفو الجانبان ( كفاحه السياسي و هجره الشعر و الفن و اللجوء إلى العلم ) علي الأزمة، فلا يظهر إلا في صورة ليس فيها من القوة و التلاحم و التفاعل مع اللحظة الحاضرة. أما اللحظة الحاضرة في حياة عمر فقد ظفرت بأکبر قسط من نجيب محفوظ، حتي ليشعر القارئ بأن سأم المحامي من زوجته و رتابة الحياة العائلية هو أزمة الحقيقية. فالقارئ يفتقد في هذه الأزمة حتي نهايتها لوعة الصوفي و تأمل المفكر و قلق الشاعر و تجارب إنسان خبّر بحكم مهنته نوازع الناس و علاقتهم، و لا يجد أمامه إلا إنسانا متحذلقا في مهنته يدرسها دراسة عالم موضوعي في معمله ".38
و قد أشرنا فيما سبق أن الحبكة في هذه القصة مفككة، فأتت أزمتها الأصلية غير مرتبطة بالتضاربات السابقة خلافا للحبكات العضوية المتماسكة التي تأتي فيها الأزمة نتيجة للتضاربات الجزئية السابقة.
ه ) الذروة :
بعد أن سأم عمر الحمزاوي من مغامراته الجنسية، و وصل إلى النشوة الروحية حين يترقب مطلع الفجر في الصحراء، ظهرت في حياته لحظة التحول، فاستبدل بكتب الإشتراكية كتب الصوفية، و قرر أن يترك مكانه لعثمان، و لا يشارکه في عمل، كما قرر أن يترك الحياة إلى كوخ صغير يستجدي فيه تلك اللحظة الفاتنة التي عاشها في الصحراء. فاتجه نحو التصوف و استغرق في سبحاته في ذلك الكوخ. فيبدو أن القصة ها هنا بلغت ذروتها و أوجها؛ و لكن هناك ذروة قوية أكثر حساسية من قبل تؤدي إلى انحلال العقدة، و هي اللحظة التي يطارد الشرطة عثمان خليل، و يصاب عمر بعيار ناري في ترقوته.
و ) الحلّ :
تنحلّ العقدة في رواية الشحاذ حينما يصاب عمر برصاصة، و هي تكون بمثابة الصدمة الكهربائية التي يفيق المريض بعدها. فشفي من مرضه، و أجاب الشرطة" ليس لشيء نهاية ".39 فكل شيء أصبح عنده ذا معني، و لا شيء عبث في الوجود. ثم تذكّر بيتا من الشعر يتردد في وعيه" إن تكن تريدني فَلِمَ هجرتني؟ "40. و هو ليس سؤالا بقدر ما جواب علي السؤال الذي طرحه نجيب محفوظ، و يجيب عنه بالطفل الموعود في أحشاء بثينة من عثمان خليل. و اعتبر ذلک ثمرة اللقاء بين الشعر و العلم و الثورة؛ و نحن نفهم من بيت الشعر الأخير في خاتمة الشحاذ ما ظل غامضا علينا طول الطريق، و لكنه الفهم المصنوع. و كان الفنان يقحم الحلّ علي مشكلة لا حلّ لها بدلا من الإنتحار، و لم يصنع أكثر من بيت شعر قديم يحث عمر الحمزاوي علي المزيد من السير إلى الأمام.41