د -الأسلوب الوصفي التسجيلي : يمكن اعتبار مسامرات الإمتاع و المؤانسة وصفا تسجيليا لأحوال مجتمع القرن الرابع للهجرة . يقول أحد النقاد :" و أيّا ما كان ,فالكتاب يلقي نورا كثيرا على العراق في النّصف الثاني من القرن الرّابع أعني في العصر البويهي".
فرسم الكتاب لأحوال المجتمع جعل من صاحبه منخرطا في الواقع تصويرا و رسما . فالمؤانسة في كتاب الإمتاع و المؤانسة ليست مؤانسة ممتعة فقط و إنما هي مؤانسة جادة . يقول زكريا إبراهيم :" تحدّدت شخصية أبي حيّان التوحيدي بثورته على أخلاق المجتمع الذي كان يعيش فيه و نقده لسير الناس الذين كان يحيا معهم , و تمرّده على العصر الذي كان ينتسب إليه".
على أننا لا يجب أن نعتبر العديد من المسامرات وثائق تاريخية ( قصّة الفتنة ) بل هي عمل أديب بالأساس لذلك يجب تخليص هذه المسامرات و كتاب الإمتاع و المؤانسة من وهم التاريخ و التعامل مع ما جاء فيها بإسقاط البعد التاريخي لان التوحيدي أديب و ليس مؤرخا و إن كانت مادة أدبه متصلة بالتاريخ و ذلك لعدة أسباب :
-موسوعية ثقافة التوحيدي الملّمة بالكثير من المسائل و منها التاريخية.
-التوحيدي لا يسعى إلى تأريخ الأحداث بقدر ما يسعى إلى النقد السياسي و الاجتماعي بطريقة أدبية, و الذي يؤكد هذا المنحى الأدبي عدّة قرائن :
* خلو الكتاب من الأرقام و النسب و الموضعية
*عدم البحث العميق في الأسباب و النتائج.
*مزج السرد التاريخي بالوصف الانطباعي و الحوار مما يخرج الحديث عن طابعه التاريخي و يضفي عليه طابع المباشرة.
مسائل متعلقة بالتوحيدي و فكره و أدبه :
1) مركزية العقل في الإمتاع و المؤانسة :
احتل العقل في مسامرات الإمتاع منزلة محورية باعتباره قطب الرّحى الذي تدور حوله جميع القضايا و المعارف . و هذا ما انتهى ببعض النقاد إلى اعتبار التوحيدي " أديب الفلاسفة و فيلسوف الأدباء".
هذه المنزلة المحورية انتهت بابي حيّان إلى عقلنة الأدب شكلا و مضمونا و هذا أحسن شأنه أن يؤكد على:
أ- جدّية كتاب الإمتاع و المؤانسة : فقد تناولت مسامرات الكتاب قضايا جادّة و بروح نقدية تساؤلية تواقّقة إلى التغيير و إلى تخليص المعارف من الوثوقية . و هذه الجدّية تؤكد غربة التوحيدي , فهو الجّاد في عصر الهزل و هو العاقل في زمن أشباه العقلاء و هو المفكّر الحرّ في عالم التمهذب و هو اللاّمنتمي في زمن الفرق و الملل .
ب- تحرير الأ ديب من أدب التسلية و التكدّي إلى أدب السؤال و المساءلة و من أدب الصّنعة و البديع إلى أدب صياغة علامة الاستفهام .
يقول أحمد محمّد الحوفي:" كان أبو حيّان مكتبة جامعة لأكثر هذه الثقافة , خبير بالنّحو و اللّغة و الدب و الكلام و التصوّف و الفقه و الفلسفة....".
و كتاب الإمتاع يخاطب العقل قبل القلب و يحفّز إلى التفكير لا إلى الاستفادة السّلبية أو السهلة . و يقول أحد النقاد عن الإمتاع و المؤانسة " هو كتاب ممتع على الحقيقة لمن له مشاركة في فنون العلم , فانّه خاض في كلّ بحر و غاص في كل لجّة.
خاتـمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
لم يكن التوحيدي عالما بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى شامل كما أنّه لم يكن فيلسوفا لأننا لا نستنتج من أثاره فلسفة أو مذهبا بل هو أديب و نحوي و فقيه و متكلّم أكثر منه فيلسوف . فالتوحيدي إذن موسوعي يمثل أرقى ما وصلت إليه ثقافة الأديب في عصره , فقد شارك بأنواعها دون أن يتوغّل في أحداها فكانت له مزيّة التعبير عن عصر ازدهر فيه الفكر و نضجت فيه العقلية العربية و ارتقى الفنّ الكتابي .
و التوحيدي اطمأنّ إلى مرجعه الأكبر اطمئنانا كاملا و آمن به إيمانا تامّا. و هو العقل , فهو أداة سبر الأغوار و كشف المجهول و ميزان الحكم و معيار الحقيقة . و من ثمّ لم يكن مستغربا أن يصفه أي العقل بقوله" أن العقل هو الملك المفزوع اليه و الحكم المرجوع إلى لديه من كلّ حال عارضة و أمر واقع عند حيرة الطّالب ......به ترتبط النّعمة و تستدفع النقمة و يستدام الوارد و يتألّف الشارد و يعرف الماضي و يقاس الآتي , شريعته الصدق و أمره المعروف و خاصيته الاختيار ووزيره العلم و ظهيره الحلم و كنزه الرّفق و جنده الخيرات و حليته الإيمان و زينته التقوى و ثمرته اليقين"
]
و الله ولي التوفيق .
الإهداء الى كل من يجتاز الباكلوريا شعبة الآداب و الى إبنتي ريما